top of page

نبذة تاريخية عن صناعة الغزل والنسيج في مصر

 

 

تحتل صناعة الغزل والنسيج مكان الصدارة بين الصناعات الاستهلاكية في دول العالم تبعا لكونها تعتمد على خامات رئيسية تعتبر مصدرا أساسيا من مصادر الثروة .

وأهم هذه المصادر القطن والصوف والألياف الصناعية ، ويقف القطن منها جميعا في المقام الأول حتى الآن بحيث يمكن القول بأن الصناعة النسيجية بصفة عامة والقطنية على وجه الخصوص تشكل حجر الزاوية في الاقتصاد العالمي وبالتالي في الاقتصاد القومي المصري.

■■■■■

نشأة الصناعات النسيجية في العصور القديمة:

―――――――――――――――

ويحدثنا التاريخ أن صناعة الغزل والنسيج ولدت وترعرعت في الشرق منذ آلاف السنين في وقت كان كساء شعوب الغرب مقصورا على جلود الحيوانات.

وقد مارست مصر عملية غزل ونسيج الألياف النباتية منذ أيام الفراعنة ، فالمصريون القدماء هم أول من زرع الكتان وغزله ونسجه كما يظهر ذلك في رسوم معابد قدماء المصريين ، ولا تزال باقية تلك النقوش، وفي معابد طيبة على وجه الخصوص، كما وجدت مراكب الشمس مغطاة بنسيج من الكتان وقاية لها من العوامل الجوية.كما كانت أقمشة المومياء الكتانية في مصر مرسومة باليد. وقد استغل المصريون القدماء ألوان النيلة والألوان الطبيعية، ولقد ثبت أيضا أن المصريين مارسوا فن طباعة الأقمشة كما تدل الرسوم الموجودة على حوائط جدران المعابد والقابر لسيدات يرتدين الأقمشة الكتانية التي تحتوي على أشكال هندسية وزخرفية ولو أنه لم يكتشف حتى الآن شئ من تلك الأقمشة بحالة جيدة.

كما يحدثنا التاريخ أن بذور القطن وجدت في بعض مقابر قدماء المصريين وإن لم يبين لنا تماما مدى استغلالهم لهذه الخامة في صنع كسائهم، إلا أن الأمر الذي لا خلاف عليه أن الشرق عرف القطن وغزله ونسجه قبل أن يعرف الغرب عنه شيئا حيث كان المصريون القدماء يتبعون أحدث عمليات الغزل المعروفة حاليا وهي "الغزل الرطب" والتي توصلوا بواسطتها إلى غزل خيوط غاية في الدقة والتناسق وقد بلغت بعض المنسوجات من الدقة سواء في نعومة الخيط ورفعه، أو في حبكه وخفه وزنه.

ثم ولت دولة الفراعنة بحضارتها وصناعتها ومرت العصور الوسطى دون أن تترك أثرا يذكر عن هذه الصناعة أو مدى التطور الذي سارت فيه.

ومرت القرون على مصر بعهود من ذل الغزو الأجنبي وظلام الاستعباد إلى أن أشرقت على البلاد بشائر نهضة صناعية في العهد الاسلامي، وكانت صناعة الغزل في مقدمة هذه الصناعات وكانت لها الشهرة الذائعة بفخامة النوعية وبهاء الرونق. ولم تكن الصناعة محصورة النطاق بل كانت بالغة الانتشار تكفي السوق المحلي ويصدر الفائض منها.

وكان العهد الذهبي في تاريخ هذه الصناعة خلال عهد الفاطميين، ومع انتقال الخلافة إلى العهد العثماني ووضعها في القسطنطينية، وتعسف نظام الضرائب وضعف الولاة، واضمحلال الجيش، كانت كل هذه العوامل سببا في هبوط مستوى الصناعة المصرية في هذا العهد، وكذلك عهد المماليك.

وقد ازدهرت بعد ذلك هذه الصناعة في مصر في الفترة التي أعقبت حكم المماليك وكان إنتاجها يغطي السوق المحلي ويصدر منها إلى الشام وبلاد أوروبا.

ولكنه سرعان ما أدى قيامها على غير قواعد راسخة إلى تدهورها تماما في عهد من حكموا مصر من أسرة محمد علي، وكانت كل خطوة تخطوها الصناعة الأوروبية إلى الأمام تقابلها خطوة من الصناعة المصرية إلى الوراء، وأصبحت الصناعة النسجية تتركز في عدة وحدات يدوية صغيرة .

■■■■■

عصر استخدام الآلات الميكانيكية في صناعة النسيج :

―――――――――――――――――

في عام 1899 قامت محاولة جريئة لإنشاء مصنع لغزل ونسج القطن في مصر إلا أن الظروف التي كانت سائدة في ذلك الوقت وأهمها سياسة الباب المفتوح والامتيازات الأجنبية التي كانت تحول دون اتخاذ أي إجراء لحماية الصناعة، وتدفق الوردات الأجنبية من البلاد التي قطعت شوطا كبيرا في ميدان الصناعة القطنية كل ذلك جعل الإنتاج المحلي في مركز غير متكافىء بالقياس إلى مثيله من الإنتاج الأجنبي، هذا بالإضافة إلى الأعباء الأخرى التي كان يتحملها المصنع وأهمها رسم الإنتاج الذي فرضته الحكومة بواقع 8% أي بما يعادل قيمة الرسوم الجمركية المفروضة في ذلك الحين على الأقمشة المستوردة … هذه العوامل مجتمعة أدت إلى إغلاق المصنع في عام 1908.

■■■■■

نشأة الصناعة النسيجية في العصر الحديث:

――――――――――――――

في عام 1911 أعيد إنشاء الشركة التي كانت تعرف باسم شركة الغزل الأهلية بمدينة الإسكندرية وكان قوامها 18 ألف مغزل و480 نولا وتستهلك كمية ضئيلة من محصول القطن المصري لا تتجاوز 966 طنا في السنة وكان إنتاجها من خيوط الغزل يبلغ 680 طنا ومن المنسوجات 4 مليون ياردة وساعدت ظروف الجرب العالمية الأولى التي نشبت بعد مضي ثلاث سنوات من تأسيسها على صمودها وبقائها. وبانتهاء الحرب العالمية الأولى أعيد فرض رسم الإنتاج على الصناعة مع تخفيضه إلى 4% وظل هذا الرسم قائما حتى سنة 1925 كما ظلت الصناعة تعاني من الركود خلال تلك الفترة بفضل السياسة الاستعمارية التي اتبعتها بريطانيا بهدف الاحتفاظ بالسوق المصرية كعميل مضمون لصناعة لانكشير.

 وفي خلال السنوات التي تلت سنة 1919 قامت في البلاد نزعات وطنية صادقة تنادي بالاستقلال وقيام صناعة وطنية خالصة ولم يتحقق ذلك في مجال صناعة الغزل والنسيج إلا في عام 1927.

■■■■■

الصناعة في الثلاثينيات:

――――――――

 فكر رائد الصناعة المصرية المغفور له محمد طلعت حرب باشا في إرساء قواعد الصناعة القطنية بالبلاد على أسس سليمة، وتم فعلا تأسيس شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى سنة 1930، وكان إنتاجها بمثابة نقطة تحول في الصناعة القطنية في مصر، إذ حفز ذلك المسئولين إلى تعديل التعريفة الجمركية لحماية هذه الصناعة، كما حرك روح المنافسة عند الشركات الأخرى، فبدأت في تجديد آلاتها وتحسين وسائل إنتاجها .

ومرت هذه الصناعة فيما بين عامي 1931 –1938 بسنوات عجاف، قاومت خلالها ظروفا غير ملائمة بسبب الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت البلاد، وصعوبة تدريب العمال فضلا عن انعدام الثقة في جودة الإنتاج المصري واتجاه الطلب الفعلي إلى المنتجات الأجنبية.

■■■■■

الصناعة في الأربعينيات :

―――――――――

نشبت الحرب العالمية الثانية في سنة 1939 ، وانقطع خلالها الاستيراد من الخارج وأصبحت السوق المحلية تعتمد في سد حاجتها على الإنتاج المحلي وحده، بل وفي سد حاجة جيوش الحلفاء التي كانت مرابطة في البلاد في ذلك الوقت ،وكانت المصانع تعمل ليلا ونهارا لتلبية الطلبات المتزايدة ، وواجهت الصناعة المصرية القطنية خلال فترة الحرب رخاء وازدهار وتوسعا ملحوظا ، وقد حقق ذلك أرباحا مجزية للمصانع كانت نتيجته الاندفاع نحو إنشاء مصانع جديدة لغزل ونسج القطن انتهازا للفرصة وتوخيا لتحقيق أرباح كثيرة.

ولم يكن هذا التوسع في الإنتاج خلال الحرب وما تلاها قائما على خطة مرسومة لتحقيق أهداف واضحة ومدروسة تضع في اعتبارها ظروف الإنتاج وتطوراته والمنافسة في الأسواق العالمية ، فإنها بدأت تلاقي في أعقاب الحرب صعوبة في تصريف منتجاتها لزيادة الإنتاج المحلي عن حاجة البلاد بأكثر من 25% من جهة ومن المنافسة الأجنبية من جهة أخرى ومن ثم بدأت بوادر المضايقات التي تنذر بزوال تحكم هذه الصناعة في السوق – ذلك التحكم الذي لازمها طوال فترة الحرب واصبح العامل الرئيسي الذي يسيطر على الموقف لدى المستهلك هو اعتدال السعر وجودة الصنف.

ولما بدأت البلاد الصناعية- التي كانت مغلقة اقتصاديا منذ بداية الحرب كألمانيا واليابان- في تشغيل صناعتها في الإنتاج المدني بكامل طاقتها حتى تواجه احتياجات ما بعد الحرب أخذت تستورد الأقطان المصرية بنسب كبيرة الأمر الذي ازدادت معه صعوبات صناعة غزل ونسج القطن في مصر بعد أن استعادت الصناعة في الخارج مستوياتها وبدأت في زيادة إنتاجها فضلا على أن الطلب على القطن المصري الخام في الأسواق العالمية أدى إلى زيادة أسعاره مما جعل المنتجات المحلية من الأصناف الشعبية يرتفع سعرها بالنسبة لمثيلاتها المصنوعة من الأقطان الأجنبية الرخيصة . وترتب على ذلك زيادة المخزون لدى المصانع مع تعذر تصريفه بسبب ارتفاع الأسعار يضاف إلى ذلك عامل هام هو أن معظم الآلات أصبحت في حكم المستهلكة بسبب العمل المتواصل خلال سنيين الحرب.

■■■■■

وعلى هذا بدأت تظهر على الصناعة مظاهر الإرهاق نتيجة:

―――――――――――――――――――

  • بدء عودة الظروف الاقتصادية إلى حالتها الطبيعة وكثرة الوارد من المنسوجات القطنية.

  •  ارتفاع أسعار المنسوجات القطنية المصرية بالنسبة للقوة الشرائية في السوق المصرية.

  •  صعوبة التصدير نتيجة لارتفاع أسعار منتجات القطن من الغزل والنسيج بالنسبة لمثيلاتها في الأسواق الأجنبية.

  •  قصور بعض منتجات الغزل والنسيج المصري عن الوصول إلى درجة التكافؤ الفني بالنسبة إلى مثيلاتها من المنتجات الأجنبية.    

 

وأصبح شبح الانهيار جاثما ووشيك الوقوع ولم يخفف عنه تدخل الدولة في مايو 1948  بتحملها الفرق بين سعر الأقطان الذي قدرت على أساسه أسعار الأقمشة الشعبية والسعر الذي وصل إليه في ذلك الحين بهدف استمرار الاحتفاظ بمستوى القوة الشرائية للمستهلك وفي نفس الوقت مساندة المصانع وتقويتها على مواصلة الإنتاج وتحسينه.

ومن دواعي الأسف أن المصانع لم تستغل هذه الإعانة الاستغلال السليم إذ عمد بعضها إلى بيع الأقطان المسلمة إليه واستبدالها بأصناف واطئة منخفضة السعر للاستفادة من فروق السعر فضلا عن أن أصحاب المصانع استمروا في شكاواهم مهددين بغلق مصانعهم مستهدفين من وراء ذلك مزيدا من الإعانات، فاضطرت الحكومة إلى تشكيل لجنة تشترك فيها وزارات التجارة والمالية والشئون الاجتماعية والزراعة لبحث جميع الوسائل الكفيلة بمساعدة صناعة الغزل والنسج وتشجيعها مع الاستعانة بأصحاب المصانع الكبرى والصغرى على السواء. وانتهت اللجنة إلى أن معظم الداء كامن في جسم تلك الصناعة ولكنه كان يختفي كلما واتاها العون تارة من الحماية الجمركية وتارة أخرى من ظروف الحرب التي أوجدت رواجا وانتعاشا غير طبيعي ، هذا الداء الذي يتلخص في الإدارة غير المستنيرة التي دأبها الارتجال مما أوجد خللا في نواحي الصناعة المختلفة مالية أو فنية أو عمالية.

ولقد أوضحت اللجنة أن النتيجة التي انتهت اليها لن تؤتي ثمارها إلا إذا وجدت هيئة عليا لها سلطة الإشراف على الصناعة ولها القوة التنفيذية التي تمكنها من السير والصمود بمعنى أن تكون الصناعة خاضعة لرقابة فعالة. 

 

لهذا رأت الحكومة أنه لابد من التدخل لتنظيم هذه الصناعة تنظيما يكفل لها الصمود في ميدان المنافسة الحرة سواء كان ذلك في الأسواق الداخلية أو الخارجية ويحميها من تقلب الظروف الاقتصادية معتمدة في ذلك على موارد الصناعة ذاتها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

bottom of page